الثلاثاء، 15 مايو 2012

دون أن نعرف!


دون بالضرورة أن نعرف!

نص: دانيال بن سعيد







نهاية أم استمرار



       انتهت دورة من الحركة العمالية مع "القرن العشرين القصير". وها هو فصل جديد يكاد يبدأ. الحلقة التي يندرج بها تاريخ الحركات التروتسكية هل تنتهي مع حلقة الستالينية التي حاربها التروتسكيون باسم الماركسية الثورية؟ بعض التيارات النابعة من تلك المعركة هل تستغل خبرتها وذاكرتها في وضعية جديدة تكاد تظهر حدودها؟ هل تستطيع تعبئة خبراتها لإثراء الحركات الاجتماعية الوليدة؟ هل تصنع همزة وصل بين ما كان بالفعل وما لم يحدث بعد؟ الإجابة ليست موجودة بشكل مسبق؛ فهي تتوقف على النضال.

       الفروع المختلفة النابعة من الجذع الرئيسي، الأممية الرابعة والتيار الاشتراكي الدولي (الذي تطور انطلاقا من حزب العمال البريطاني) هي الأهم باعتبار تواجدها في بعض البلدان الرئيسية وبحقيقتها الدولية الفعالة. مجموعاتها وقطاعاتها تبدو دوما نشطة للغاية في الحركة الدولية ضد العولمة الرأسمالية وضد الحروب الإمبريالية وكذلك في تجديد الحركات الاجتماعية. فهي تعمل دوما في عمليات إعادة بناء على المستوى القومي مع تيارات نابعة من الحركة الشيوعية ومن الحركة البيئية الراديكالية إلى الحركة النسوية الثورية. وبضعفها، تبدو التيارات المورينية أو اللمبرتية دوما ملخصة في تأثير قومي أو إقليمي. والتيار النابع من "المناضل" البريطاني قد تفجر. "النضال العمالي" الذي حصد مرشحه ارليت لاجيلير 5% من الانتخابات الرئاسية عام 1995 والذي وصل دوما أمام مرشح الحزب الشيوعي في التصويتات، يمثل ظاهرة نوعية في فرنسا حيث اليسار الثوري التروتسكي في مجمله يتأرجح وفقا لنوع الاقتراع بين 5،5% وبين 12% (في بعض المناطق).

       الدخول دون نفي ولا تعصب في القرن الجديد لن يتم دون عمل نظري وعملي، ولا دون إعادة النظر في رؤية للتاريخ مرتبطة بالكلمة الممسوخة "التشوه"، و"مسوخ" أخرى تفترض مسبقا نظاما واتجاها وحيدا للتقدم التاريخي.

       ذلك العمل يتوقف عند عتبة القرن الواحد والعشرون. بيد أن تاريخ العالم لا يتوقف عن التدفق. وتلك الحقبة تبدو أشد عنفا من أي وقت مضى. الأمر لا يتعلق بأزمة نمو لكن بأزمة انهيار حضاري. العلاقات الاجتماعية للبشر فيما بينهم وفي علاقتهم بالشروط الطبيعية لتكاثر النوع البشري لن تكون ملخصة في الأحكام قصيرة البصر للأسواق والبؤس المعمم بالمنظور السلعي. معلنين أن "عالمنا ليس للبيع" ، يطرح المتظاهرون ضد العولمة الإمبريالية في سياتل وجنوه بل وأيضا في بورتو أليجري (المدينة الرمز حيث لعب اليسار التروتسكي بحزب العمال دورا حاسما منذ قرابة العشرون عاما) ، يطرحون التساؤل أي نوع من البشرية نريد أن نكون وفي أي عالم نريد أن نحيا. لو أن العالم ليس سلعة، فما الذي ينبغي أن يكونه وماذا نريد أن نفعل به؟

       انهيار الاشتراكية "التي لم توجد بشكل حقيقي" حرر الجيل الجديد من النماذج المضادة التي كانت توقف الخيال وتفسد مجرد فكرة الشيوعية. لكن البديل للبربرية الرأسمالية لن تتم صياغته دون تقييم جاد للقرن الفظيع الذي انقضى. في هذا المعنى على الأقل التروتسكية أو روح التروتسكيات لم يتم تجاوزها. ميراثها الموجود بلا توجيه يبدو دون شك غير كاف، لكن ليس أقل من أن ينهي الخلط بين الستالينية والشيوعية وقلب صفحة الأوهام.
















 الليبرالية الجديدة والرأسمالية القديمة

كيف يصنف اليسار الجديد نفسه؟





تساؤلات مثيرة للحنق: هل على اليسار الكلاسيكي أن يعرف نفسه كمعاد للرأسمالية أم لليبرالية؟ العداء لليبرالية يعبر في أفضل الأحوال عن دلالات تشكل جبهة رفض تبدأ من اليسار الثوري وحتى المسالمة الثيولوجية.

       العداء لليبرالية هو عنوان واسع. تماما واسع وجمعي على غرار الحركات الليبرالية نفسها. فهو يضم كل ألوان الطيف من المقاومة للإصلاح الليبرالي المضاد الذي بدأ منذ تمرد الزاباتيستا عام 1994 إضرابات شتاء عام 1995 والمظاهرات المضادة للعولمة في عام 1999 في سياتل. ويعبر هذا العداء لليبرالية عن رفض اجتماعي وأخلاقي لم يتوصل بعد للتسلح باستراتيجيات سياسية بديلة بشكل واقعي. وبشعارات المنتديات الاجتماعية على مستوى الكوكب والتي تم عرضها في كتب فيفيان فورستر أو ناعومي كلين انه وقت الضروري بلا شك للنفي: "العالم ليس سلعة؛  العالم ليس للبيع" "عالم آخر ضروري" ، لكن أي عالم؟ وبوجه الخصوص كيف نجعله ممكنا؟



       تلك الحقبة المعادية لليبرالية التي تميزها العودة للمسألة الاجتماعية وصعود الحركات الاجتماعية القديمة أو الجديدة، سمحت بمنح الشرعية للخطاب الليبرالي القائم منذ التسعينيات. بل بتقديم حلول للثورة النيوليبرالية المضادة وتم فتح الطريق لكافة ألوان الطيف. التحدث بشكل مفرد عن حركة مناهضة للعولمة كما لو كان الأمر يتعلق بموضوع كبير قابل للحلول محل بروليتاريا ممزقة ليس فحسب طرحا مغامرا لكنه يعبر عن تصور خاطئ. فعلى "الكوكب البديل" يتعايش معا في الواقع – وأيضا هكذا بشرط عدم المساس بالاختلافات الحقيقية في توافق دبلوماسي- المعارضون الراديكاليون للمؤسسات الدولية مثل البنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية وبين مؤيدين لإصلاحهم؛ مؤيدين للرفض والقبول بالتلاقي حول معاهدة الدستور الأوروبي TCE؛ وبين أولئك الذين يبتغون أنسنة تسليع العالم والذين يبتغون إسقاط رموزه؛ وبين أولئك الذين يديرون عمليات الخصخصة وإصلاحات الحماية الاجتماعية والذين يعارضونها.

       هل الجميع معادون لليبرالية؟ بشكل ما وحتى مدى معين. بدرجات متفاوتة وبشكل مختلف نوعيا. البعض يكتفي بأن يصحح على الهامش دخول الليبرالية المتوحشة دون أن يشكك في طبيعتها الرأسمالية. وآخرون يريدون أن يغيروا ذلك المنطق جذريا. خطوط الفصل لا تثير ولو ثانويا مسائل لغوية (معاداة لليبرالية أو معاداة للرأسمالية) لكن تثير سياسات ملموسة. "لولا" وحزب العمال في البرازيل والتحالف الشيوعي في إيطاليا كانوا منذ بداية المنتديات الاجتماعية في عام 2001 ركيزتين رئيسيتين للحركة البديلة في أمريكا اللاتينية وفي أوروبا. والأول هو الآن تلميذ متحمس -على سبيل المثال- لصندوق النقد الدولي. والآخر يتعاون بنظام مع السياسة الحربية والطبقية لرومانو برودي. وكلاهما يطهر أحزابه من طابعه المقاوم. من الجلي إذن في أمريكا اللاتينية أن يكون عداء شافيز أو موراليس لليبرالية ليس بنفس المعنى ولا نفس الآليات التي لموقف لولا أو كيرشنر.

       العداء لليبرالية هو إذن ذو دلالة تشير لجبهة رفض تبدأ من اليسار الثوري إلى اليوتوبيات الكنزية الجديدة، من المسالمة الثيولوجية للمقاومة النضالية للإمبريالية. يمكنها بهذا الشكل أن تكون أداة توحيد فعالة فيما يخص فعاليات وحملات محددة ضد الديون أو ضد الحرب، ضد مرسوم بولكنشتاين أو ضد الاتفاقية الدستورية (يبدو أنه حول تلك النقطة أيضا الجبهة قد تنقسم) فهي لا تمثل في حد ذاتها مشروعا سياسيا. وذلك هو ما أوضحه انقسام اليسار الراديكالي في فرنسا إبان الانتخابات التشريعية والرئاسية: الرفض الدفاعي الذي يمثله الرفض للمنتدى حول الدستور الأوروبي لم يكن يصلح للتحول بشكل ميكانيكي لآلية هجومية حول برنامج واستراتيجية تحالف.

       المسائل المطروحة سياسيا تم تناولها بالنسبة للأغلبية كتعريفات؛ اليسار الكلاسيكي عليه أن يعرف نفسه كمعاد للرأسمالية أم معاد لليبرالية؟ ما هو موقفه من اقتصاد السوق؟ الحتمية الجدلية تشدد على الحركة والدينامية. معاداة للليبرالية أم للرأسمالية؟ إنه ليس سؤالا من أجل الأناقة أو التعريف لكنها مسألة توجه. ليس سؤالا للمواصفات أو المطالب الآنية لحملة انتخابية لكن مسالة تدخل يسمح بتقييم -بالنظر للمسائل العملية- التحالفات والاتفاقيات التي تقربنا من الهدف المنشود ومن يديرون ظهورهم عنه.

       سياسة للقطيعة مع آلية السوق ترتبط اليوم بأن يكون منطق المال العام والخدمة العامة والتضامن أن يعتمد على منطق الربح بأي ثمن وبالحساب الأناني وبمنافسة الجميع ضد الجميع. تلك القطيعة تتطلب لأجل ذلك الجرأة على التغيير في الملكية الخاصة بما في ذلك الملكية الثابتة والعقارية التي تلعب دورا رئيسيا في المسائل البيئية وكذلك التحضر والسكن. تتطلب معارضة عنيدة للحرب الكولونيالية العائدة ولاقتصاد التسلح وللاتفاقيات العسكرية الإمبريالية. وتمر بقطيعة مع خواص التلاقي واتفاقيات الاستقرار الأوروبي. نضال محقق حول تلك الأهداف يتناقض بعنف مع الائتلافات البرلمانية والحكومية مع بلير أو شرودر السالفة وائتلافات برودي أو رويال الحالية والتي تتم على أمل جعل الحدود بين اليسار واليمين متقاربة بدرجة القدرة على تجاوزها من الآن فصاعدا (في الاتجاهين). مسألة التحالفات ليست النصر التقني أو الامتداد البسيط في الأدوات لبرنامج يهدف لتغيير العالم، إنما هي جزء لا ينفصم عنه.  الخدمة العامة يمكنها أن تكون مخصصة للخدمة الخاصة؟ في عام 1977 ميشيل روكارد كان قد اتخذ أرضية لرب العمل مصرحا أن المنطق الخاص بالتنظيم –خطة أو سوق- يبدو شاملا ونحن لن ننحرف مع السوق. وكان قوله صحيحا. الأمر لا يتعلق بإبطال كل العلاقات السلعية لكن بمعرفة من يقوم بها من السيادة الديموقراطية للسلطة الشعبية أم من وثنية السوق. المسألة لا تتلخص في التناسب الاجتماعي المدار آليا لوسائل الإنتاج والاتصال والتبادل. الأمر يتضمن بنفس القدر سياسة ضريبية وتحكم سياسي في الأدوات النقدية وإعادة تعريف الخدمات العامة وإعادة توجيه التجارة الخارجية.

فضلا عن ذلك، أشكال الظهور الاجتماعي يمكنها أن تكون متنوعة للغاية من الشركات العامة للتعاونيات المدارة بشكل آلي. لكن هنا أيضا المسألة الرئيسية هي مسألة موازين القوى الاجتماعية والسياسية وسلطة اتخاذ القرار الفعلية.

        وللذهاب لجذور الأمور، حركة معادية لليبرالية وراديكالية عليها أن تهاجم صلب الرأسمال وجعل حق الوجود كالسكن الصحة والتعليم والعمل في مواجهة حق الملكية. عليها أن تتصدى للخصخصة ولتسليع العالم؛ سياسة تضامن اجتماعي ومناهضة للسلعية وللمجانية. في ذلك الحين، التمييز الرسمي بين مناهضة الليبرالية ومناهضة الرأسمالية يتحدد:



فقط بمقاومة ما لا يمكن مقاومته يمكننا أن نصير ثوريين دون  بالضرورة أن نعرف ذلك.