هجمة ضد المجتمع العربي
أهم ما يثير الانتباه في الكتابات ضد معاداة السامية هو مصداقيتها. فقبل طرح وجهات نظر، تتصدر المواقع الإليكترونية والصحف الخاصة بالمؤسسات المعنية بالمسألة أرقام وإحصاءات تتضمن رصدا لما وقع لمدنيين أوروبيين من اعتداءات بسبب ديانتهم اليهودية. وبالمثل، تستند الحملة ضد الإرهاب والتي تقودها الولايات المتحدة الأمريكية في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر إلى منطق رفض "الإعتداءات ضد مدنيين". غير إن ما إنتهت إليه عمليا الحملتين في مجملهما هو هجمة شرسة ضد المجتمع العربي تذهب بالرأي العام الغربي لاعتباره منبع للإرهاب والإرهابيين ولمعاداة السامية مع وضع كافة الأنشطة المناهضة للاستعمار في المنطقة في عداد معاداة السامية أو الإرهاب، بل مع تبرير ممارسات الجيش الاسرائيلي والانجلوأمريكي بوصفها حربا تبغي "مكافحة الإرهاب".
لقد كشف حادث طابا الذي وقع في السابع من شهر أكتوبر2004 وأودى بحياة عدد كبير من السياح المدنيين من بينهم إسرائيليين عن ذلك المنطق المزدوج وذلك الإستباق لوضع كل ما تشهده الساحة في إطار الخطاب الدولي المناهض للإرهاب: الحادث إرهابي لأن ضحاياه من المدنيين، لكن الممارسات الاستعمارية والعنصرية الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة لا تخضع لنفس المنطق ولا تعد إرهابا ولا تنطوي على تمييز وإنما بالعكس تعد وسيلة لمحاربة الإرهاب والتمييز بالرغم من إن تلك الممارسات تتم عبر جيشين نظاميين من أكبر جيوش العالم –الأمريكي والإسرائيلي- وتحصد يوميا ضحايا من المدنيين. وأعلنت إسرائيل قبل أي جهة عن تورط تنظيم القاعدة في العملية. ففي الوقت الذي كانت أجهزة الشرطة المصرية تسعي فيه للكشف عن ملابسات الحادث الذي أسفر عن نحو 32 قتيل و125 مصاب، رجحت مصادر إسرائيلية -من موقعها- تورط القاعدة استدلالا بطريقة التنفيذ (استخدام سيارات مفخخة) والتي لا تشبه طرق عمل المنظمات الفلسطينية. ومن الجانب الأمريكي، جاء تناول صحيفة واشنطن بوست للحادث ليؤكد على الرؤية نفسها حيث أشار خبراء أمريكيون إلى "تورط واضح للقاعدة في العملية" استنادا إلى نفس المنطق الاستدلالي، مع الإشارة إلى إنه "ليس من الضروري أن يكون أسامة بن لادن" وإنما "جماعات أخرى تمضي على نفس نهجه".
والواقع، إن الأزمة الرئيسية التي يثيرها كل من مفهومي "الإرهاب" و"معاداة السامية" هي إستناد كل من منهما الى وقائع حقيقية من إعتداءات فعلية ضد مدنيين (يهود أو على غرار حالة الحادي عشر من سبتمبر) وحتى حالات التمييز والتخلف وإنتهاكات حقوق الإنسان في الجنوب. في الحالتين، يهدد تشابك الإشكاليات بخلط المسائل وبتحميل العديد من القضايا على بعضها البعض دون وضع الإنفصال التاريخي بينها في الحسبان: ففي خصوص الكتابات ضد "معاداة السامية" تركز تلك الحملات في أوروبا على تاريخ حقيقي من الإضطهاد ضد الأقليات اليهودية من قبل الحكومات الأوروبية. لكن على الجانب الآخر، ومثلما أسفرت مشكلة الأقليات اليهودية في أوروبا عن إنشاء دولة إسرائيل، يستمر التبرير للممارسات الإسرائيلية والأمريكية في المنطقة تارة بوصفها كفاحا "ضد الإرهاب" وتارة بوصفها كفاح ضد "معاداة السامية". إن ذلك التقدم في مفهوم "الإرهاب/ معاداة السامية" في وسائل الإعلام الغربية مقابل التراجع في إستخدام مصطلحات "إستعمار"/ "إحتلال" وهي الأكثر كثافة في الواقع الفعلي، يكشف أولا عن تضخيم مسائل تاريخية شبه منتهية وتصعيدها إلى قلب الساحة (إضطهاد اليهود) ويكشف بالأخص عن الرجحان الشديد في كفة موازين القوى الإستعمارية التي تقوم بذلك بالتضخيم من وقائع معينة وجعلها حديث العالم لشهور وشهور وتعتيم مسائل أخرى (الإحتلال) وجعلها على هامش الساحة العالمية، وهو ما يظهر على مستوى السياسات العالمية أو التنظيم الدولي وآليات المجتمع الدولي وبشكل خاص على مستوى أليات صناعة الرأي ووسائل الإعلام العالمية.
بناء على ما سلف، يمكن أولا تناول المسائل المشار إليها عن طريق طرح أهم التغيرات في موازين القوى العالمية والتي سبقت وساهمت في تشكل مفهوم "الإرهاب"، وثانيا بتقييم التشابك الشديد بين مفهومي الإرهاب ومعاداة السامية في وسائل الإعلام الغربية، وهو التشابك الذي إنتهى إلى "قانون متابعة معاداة السامية" (الأمريكي) ومن قبله مصطلح "معاداة السامية الجديدة" في الأدبيات الفرنسية المعنية بالمسألة.
أولا: الأمن الجماعي الأمريكي وتبلور مفهوم الإرهاب
ثانيا: الإرهاب المعادي للسامية : "معاداة السامية الجديدة"
أولا: الأمن الجماعي الأمريكي وتبلور مفهوم الإرهاب
تشهد وسائل الإعلام الغربية والأوروبية بشكل خاص في السنوات الأخيرة صعود غير مسبوق في الحديث عن الإرهاب ومعاداة السامية –وهو ما يمكن رصده كميا، مع اعتبار المجتمع العربي منبع الظاهرتين، في حين يتم تمرير كل الممارسات الإستعمارية في المنطقة العربية بإعتبارها سبل لمكافحة التخلف والجهل والإرهاب. وبالرغم من أن النتائج الكمية الفعلية (الخسائر في الأرواح والممتلكات) الناجمة عن الممارسات الإسرائيلية والأنجلو أمريكية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة تكشف عن خسائر تتفوق بشكل نوعي عن خسائر الإعتداءات "الإرهابية" أو "المعادية للسامية"، إلا إن التركيز الإعلامي الغربي يكون منصبا بالأساس على تلك الأخيرة. ذلك التناقض بين الممارسات الإستعمارية في المنطقة وبين أولويات وسائل الإعلام الغربية يعكس تطورا دوليا في موازين القوى لصالح القطب الأمريكي الذي تقتضي مصلحته تبرير التواجد في المنطقة. تلك المباركة الكاملة للإحتلال في أفغانستان والعراق والأراضي الفلسطينية تعني فقط سيادة القطب الأمريكي: إئتلاف دولي يعلو كل الدول ويعد نفسه مسئولا عن كل ما يحدث في كل مناطق العالم وكل ما قد يحدث فيها من تهديد أو إعتداء. إن ذلك المنطق يعود في الواقع إلى تاريخ أقدم كثيرا من أحداث الحادي عشر من سبتمبر بل ومن تكون التحالف الدولي الأول في حرب الخليج الثانية، حيث نبع من طرح فكرة إنشاء "رابطة بين الأمم" بهدف تقديم "ضمانات متبادلة" تتعلق بالإستقلال السياسي وسلامة أراضي كل دولة وترمي إلى تحقيق "الأمن الجماعي" (خطاب ويلسون أمام الكونجرس الأمريكي 1918)، وكان ذلك هو نواة نشأة عصبة الأمم ومن بعدها الأمم المتحدة. تلك الرؤية تفترض عالمية العالم ووحدته ومسئولية كل عضو فيه عنه. غير أن ذلك قد إصطدم بعقبتين رئيسيتين الأولى هي إستحالة تكوين ألية عسكرية فوق الدول لتكون لها تلك المسئولية الكونية عن سائر أعضاء المجتمع الدولي والعقبة الثانية الحقيقية –ظهرت بوضوح بعد الحرب العالمية الثانية- كانت وجود كتلة الدول الشرقية ووجود قوتين عظمتين. فالأمن الجماعي يفترض بهذا الشكل وجود ألية جماعية لوقف سباقات التسلح وهو ما لم يكن ممكنا خلال حرب المعسكرين. وبسبب تلك الثنائية القطبية وفشل فكرة الأمن الجماعي تم طرح فكرة بديلة في الأمم المتحدة وهي منطق "مناطق النفوذ". وتم تقنين ذلك المنطق بالفعل بعد قيام حلف شمال الأطلنطي عام 1949 وحلف وارسو عام 1955. ففي حين يفترض نظام الأمن الجماعي وحدة كل مناطق العالم تفترض فكرة مناطق النفوذ تقسيم العالم إلى مناطق معينة تخضع لنفوذ كل قوى عظمى.
ومع إنتهاء الثنائية القطبية الدولية وتفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، ادى ذلك الإنقلاب في موازين القوى العالمية للرجوع بشكل سهل إلى منطق "الأمن الجماعي" حيث أصبح من الممكن النظر للعالم كوحدة واحدة يكون لكل العالم أو "للمجتمع الدولي" الإفتراضي مسئولية عن كل تلك الوحدة، وفعليا تكون السيادة بهذا الشكل في يد القوى العظمى الأولى. ذلك المنطق هو الذي نجحت الولايات المتحدة الأمريكية في تسييده بشكل نهائي في حربها ضد الإرهاب على مستوى التنظيم الدولي والتشريعات الدولية. غير أن ذلك لم يستمر في إطار الأمم المتحدة التي بدأت فقط تلك العملية. فمن الناحية الرسمية أدى إنتهاء الكتلتين المتحاربتين بالرغم من عدم طرح مصطلح "الأمن الجماعي" مرة أخرى إلى إنشاء أليات دولية رسمية لنزع السلاح بسبب التوقف الفعلي لسباقات التسلح، كما أدى التراجع في إستخدام حق الفيتو في الأمم المتحدة بعد إنهيار الإتحاد السوفييتي إلى إرتفاع صلاحيات مجلس الأمن (إرتفع عدد القرارات التي إتخذها من 15 فقط عام 1987 إلى 78 خلال عام 1993) كما نشطت الأمم المتحدة بشكل كبير في التسوية السلمية للمنازعات حيث لم تكن قد قامت بأي من عمليات حفظ السلم من إبريل 1978 وحتى مارس 1988. غير أن الجانب الأعظم من عملية "قيادة العالم" كان يتم خارج إطار الأمم المتحدة وبإستخدام القوة العسكرية، وهو ما حدث على الفور خلال "عاصفة الصحراء" أو "حرب الخليج الثانية". ففي تلك الفترة، كانت السيادة ما تزال في يد الأمم المتحدة من أغسطس وحتى نوفمبر 1990 وأصدر مجلس الأمن خلالها 12 قرارا تستند إلى الفصل السابع من الميثاق وتتعلق بالتكييف القانوني لغزو العراق للكويت كعمل عدواني وقرارات تتعلق بالعقوبات المختلفة التي ينبغي فرضها على العراق لإجباره على الإنصياع لمجلس الأمن. بعد ذلك خرجت المسألة تماما من تحت يد الأمم المتحدة في نوفمبر 1990 حيث إستنفذ مجلس الأمن كافة صلاحياته وسلم زمام الأمور إلى "تحالف دولي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية {..} ومتعاون مع الكويت ضد العراق"، وإشتمل "تفويضه الرسمي" لذلك التحالف على حق الإئتلاف في إختيار "الوسيلة المناسبة" لإقناع العراق "بالانصياع لقرارات مجلس الأمن" أو "لإجباره على تنفيذها"، وأيضا لتنفيذ "قرار مجلس الأمن رقم 660 وكل القرارات ذات الصلة" وإعادة "السلم والأمن الدوليين إلى نصابهما في المنطقة".
بهذا الشكل ومع التسليم الرسمي لعملية إدارة شئون العالم على مستوى التنظيم الدولي إلى الولايات المتحدة الأمريكية، أصبحت الأخيرة هي القائد الفعلي وهو ما ظهر بوضوح في حرب العراق ألاخيرة التي تمت دون موافقة ولا تفويض رسمي من الأمم المتحدة التي اصبحت مع توجهات باقي الأقطاب العالمية خارج عملية إتخاذ القرار. في ضوء ذلك، تمثل أحداث الحادي عشر من سبتمبر وما تلاها من حملة دولية ضد الإرهاب منعطفا هاما على المستوى العالمي على مستوى توجه وسائل الإعلام العالمية. فقد عرفت تلك المرحلة تشكل المبرر وهو "مطاردة الإرهاب الدولي" قبل نشوب أي حروب وبمجرد وقوع إعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وهو ما يعني فعليا قائمة مفتوحة من الحروب غير معروفة المدى. وخلال تلك الفترة، ظهر عدد كبير من المصطلحات ذات الدلالة على غرار "محور الشر" "الدول المارقة" "الشرق الأوسط الكبير"، وإكتسب في ذلك السياق مفهوم "الإرهاب" دلالات جديدة لم يكن يحملها وتعني حتى الآن فقط تبرير الحرب في أفغانستان وحرب العراق- التي لقت بشكل خاص معارضة من كل من الحركات الاجتماعية/الرأي العام والمؤسسات الدولية المعنية بحقوق الإنسان متضمنة جهاز الأمم المتحدة وبعض حكومات الإتحاد الأوروبي، وتبرير الممارسات الإسرائيلية في فلسطين بوصفها كفاحا ضد الإرهاب وضد الجماعات الإرهابية–يبرر الجيش معظم عملياته بمصطلح "أسباب أمنية".
انتهاء الثنائية القطبية لم يعني فقط انتهاء العوائق التي تعوق ضد منطق الأمن الجماعي لكنه استتبع أيضا من الناحية الاعلامية على الصعيد الأمريكي غياب العدو الخارجي الذي تتم التعبئة ضده، وهنا ورغم غياب الثنائية القطبية يلعب مفهوم الارهاب ذلك الدور ويحل محل الكتلة الشرقية بالنسبة للآلة الاعلامية الأمريكية الضخمة. فعلى الرغم من عدم وجود قطب سياسي مقابل بشكل موضوعي للولايات المتحدة الا أن الخطاب الاعلامي الذي تقدمه الأخيرة يجعل الصورة تبدو كما لو أن ثمة طرفين متقابلين: الارهاب والائتلاف الدولي المناهض للارهاب وهو الموضوع الرئيسي لوسائل الاعلام الغربية والأمريكية في السنوات الأخيرة، وذلك رغم عدم وجود طرفين حقيقيين ورغم عدم وجود خلاف حقيقي على مستوى المحتوى الاجتماعي بين كل من الطرح الليبرالي الأمريكي ومجمل اطروحات المنظمات الاسلامية على عكس ما كان الحال عليه بين الطرف الأمريكي وكتلة الدول الشرقية.
والاحادية القطبية التي تقود تبلور مصطلح "الارهاب" لا تقتصر على الشأن الأمريكي حيث يقابلها فيما يخص يهود العالم وبالأحرى الوجود الإسرائيلي مفهوم "معاداة السامية" الذي يقوم على نفس المنطق من استناده لوقائع حقيقية واستخدامه لتبرير كم من العمليات العسكرية التي لا تمت بصلة لحجم الفعل الأصلي.
ثانيا: الإرهاب المعادي للسامية : "معاداة السامية الجديدة"
مثلما إرتبط مفهوم الإرهاب بتبلور منعطف التفرد الأمريكي بقيادة الإمبراطورية، ظهر مفهوم "معاداة السامية الجديدة" في نفس الفترة التي عرفت فيها الصحافة العالمية الترديد الواسع لكلمة "إرهاب". وعلى الرغم من ذلك التقاطع بين المفهومين من ناحية فترة ظهورهما، إلا إن الصحافة الأوروبية كانت قد عرفت مفهوم "معاداة السامية الجديدة" قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر التي جاءت بمثابة إيذانا بانطلاق حملة مكافحة الإرهاب. فقبل ذلك التاريخ بعامين، وبالتحديد في الثلاثين من نوفمبر 1999 فوجئ العالم بمظاهرات الحركات المناهضة للعولمة في سياتل بالولايات المتحدة الأمريكية والتي جاء تكرارها ليعلن عن مولد حركة معارضة جديدة ذات طابع عالمي تنظم تعبئات كبرى ضد اجتماعات الدول الكبرى وضد السياسات النيوليبرالية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي وتعتبر مسألة الإستعمار ومشكلات العالم الثالث على رأس أولوياتها . بعد ذلك بعام، في سبتمبر 2000، سوف يأتي إندلاع الإنتفاضة الثانية مرتبطا بصعود الحركة الإسلامية المسلحة التي تقوم بتنفيذ عمليات عسكرية إستشهادية ذات طابع خاص وتستهدف في الكثير من الأحوال المدنيين الإسرائيليين، مع تصاعد نسبة أعمال العنف التي تستهدف أوروبيين يهود في إطار توتر عالمي بين الشمال وبين الجنوب العربي بشكل خاص. وأخيرا جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ثم الحملة ضد الإرهاب لتضع ذلك التوتر في ذروته. في ضوء ذلك، انتقل مفهوم "معاداة السامية" الذي تتداوله المنظمات اليهودية الأمريكية والأوروبية بشكل خاص إلى مرحلة جديدة هي مرحلة نقد "معاداة السامية الجديدة". فوفقا لتعريف تلك المنظمات لها، تمثل "معاداة السامية الجديدة "أو للتدقيق "الحركة الجديدة المعادية للسامية" L’antisémitisme nouvel "الإرهاب المعاد للسامية" حيث تصف الحركة الإسلامية المسلحة وحركات اليسار الجديد بأنهما حركة "واحدة" جديدة تعادي اليهود بشكل عرقي، وتتميز عن "معاداة السامية الكلاسيكية" بأن الأخيرة تستهدف اليهودي الفرد في حين تستهدف الجديدة "الوطن اليهودي" "إسرائيل" في مجمله". تتمثل حركة معاداة السامية الجديدة في طرح السويدي بيير ألمارك و البروفيسير ايروين كولتر في "تخليص العالم من التجمعات اليهودية و من ثم دولة اليهود ومؤيديها في العالم اليهودي "judentadt- rien"وليس مثلما كانت تنادي الحركة الكلاسيكية المعادية للسامية وهو تحويل العالم الى "juden -rien" أي تخليص العالم من اليهود. "وفي تحليل آخر يتم تقديم المسالة باعتبارها "تهديد عالمي تشنه "حركتين عالميتين ضد اليهود: من جانب تحيا "معاداة السامية القديمة" التي ترتبط باليمين المتطرف المعادي للأجانب في مناخ جيد في معظم أوروبا {..} وعلى صعيد آخر يشهد العالم كله ظهور إيديولوجيا عالمية معادية لليهود {..} وتتمثل أشكال الحركة الجديدة التي تولد في الشبكات الإسلامية وحركات اليسار الجديد مناهضي العولمة الليبرالية والتروتسكيين والفوضويين والذين يستغلون في ذلك بالأساس "المسألة الفلسطينية". ( صحيفة لارش سبتمبر 2002 :معاداة السامية الجديدة :تهديد عالمي La nouvelle judéophobie)
والواقع إن ما يثير الإنتباه في ذلك الطرح الذي يتردد بشكل واسع ليس فقط في الأوساط اليهودية الأوروبية بل في كافة المجتمع الأوروبي في الآونة الاخيرة هو مصداقيته الشديدة قبل الرأي العام الأوروبي وحصوله على صدى واسع يتجاوز في الكثير من الأحوال الموقف من الممارسات الإستعمارية في المنطقة. وترجع تلك المصداقية بالأساس إلى الإعتماد قبل كل شيء على رصد أعمال عنف حقيقية تتم ضد مدنيين : "من جهة الأرقام المتعلقة بحوادث العنف, فقد وقع 255 منها في عام 2002، منها 66 على شكل حرائق وباستخدام أسلحة, لتشكل زيادة 100% بالمقارنة بالسنة السابقة. و تم رصد 230 حادث عنف في عام 2001منها 50 باستخدام السلاح وبنية القتل. و منذ أعياد الفصح بذلك العام, تم رصد 117 حادث منها 80 في أوروبا الغربية والأغلبية في فرنسا." (لارش سبتمبر 2002). بيد أن ذلك الخطاب "الرافض للتمييز" ينكشف في الوقت نفسه عن مركزية محورية لدولة إسرائيل تجعله يتجاهل تماما ممارساتها الإستعمارية في الأراضي الفلسطينية وتصل به إلى وضع كل من الحركة الإسلامية المسلحة وحركات اليسار الجديد في إطار واحد، هو حركة معاداة السامية الجديدة، بالرغم من الإختلاف الجذري والنوعي بينهما، وذلك لمجرد إتفاقهما على إدانة الممارسات الإسرائيلية على كامل التراب الفلسطيني، حيث تعتبر فلسفة عمل المنظمات اليهودية في هذا الصدد إن الحركات الجديدة تشكك في الوجود الإسرائيلي نفسه وهو بالفعل موقف بعض الأجنحة في الحركات الإسلامية واليسارية. بهذا التحليل الذي يجمع اليسار الجديد والحركات الأصولية، حقق مفهوم "معاداة السامية الجديدة" هدفين: الأول تحقق بإشارتها للحركات الإسلامية المسلحة حيث وضعت بذلك مسألة معاداة السامية على القائمة الأمريكية التي تشن حربها ضد الإرهاب في الإطار السالف طرحه حيث نقلت بذلك "حركة معاداة السامية" إلى طور "معاداة السامية الإرهابية"، وتمت بالفعل ترجمة ذلك إلى أمر واقع ملموس بإصدار الكونجرس الأمريكي لقانون "مراقبة الأعمال المعادية للسامية". وعلى صعيد آخر، حققت المنظمات اليهودية الأوروبية بمفهوم "معاداة السامية الجديدة" هدفا آخر ربما يكون أكثر أهمية وهو كسبها بنجاح لتعاطف الرأي العام الأوروبي في تلك المسألة، وذلك من ناحية التعبئة ضد "معاداة السامية" أو على الأقل تحييد أوروبا من المسألة الفلسطينية وهو عكس ما تدفع إليه حركات اليسار المناهض للعولمة الليبرالية. ويأتي ذلك مصحوبا بنوع من التمييز ضد الجاليات العربية بوصفها "مصدر العنف في أوساط المهاجرين المسلمين {..} حيث تغذي المجموعات بعضها البعض بشكل متبادل" (دينا باروت- هل يعادي يسوع يعقوب).
كسب الرأي العام الأوروبي أو تحييد تأثير حركات المعارضة التي تنظم تعبئات كاملة لصالح المسألة الفلسطينية هو أحد الجوانب. الجانب الأهم في هذا الإطار هو الضغط على حكومات الإتحاد الأوروبي ووضعها دوما محل تساؤل إن كانت معادية للسامية أم لا وهو ما كشفه تماما طرح شارون بصدد هجرة يهود فرنسا، ذلك إن هذا الضغط قد يستتبع سن قوانين محددة قد تنطوي على تمييز ضد الجاليات العربية المهاجرة علما بأن المشرع الفرنسي يعترف صراحة بوجود ظاهرة "معاداة السامية" ويضع ظرفا مشددا خاصا في حالات إرتكاب حالات "تمييز" من هذا القبيل (قانون ليلوش- تعديل فبراير 2003 -موقع وزارة العدل الفرنسية).
في هذا الاطار ينبغي توضيح العديد من الأمور لتفادي التشابك الشديد بين حقيقة كل من مفاهيم الارهاب ومعاداة السامية وبين الاستخدام الاعلامي لهما وذلك على النحو التالي:-
أولا: ظاهرة معاداة السامية والتمييز العرقي ضد اليهود في أوروبا هي ظاهرة تاريخية وحقيقية ومسجلة بالفعل ضد اليهود الأوروبيين.
ثانيا: العنصرية ضد اليهود في الأوساط العربية والإسلامية والتي تعتبرها المنظمات الأوروبية امتداد لظاهرة معاداة السامية هي الأخرى ظاهرة حقيقية ويمكن رصدها في الخطاب الاعلامي العربي بوجه عام والذي غالبا ما يتطرق للصراع العربي الاسرائيلي باعتباره مشكلة اليهود والوجود اليهودي وهو أيضا أمر يخص الرأي العام العربي على المستوى الأكثر عمومية- موقف الحكومات العربية والجهات الرسمية يتأرجح بين التطبيع مع إسرائيل الذي تفرضه ضرورات السياسات النيوليبرالية وبين الموقف التراثي العنصري من اليهود وذلك الأخير هو الأكثر تأثيرا في الرأي العام العربي وقلما يتم طرح مسألة الاستعمار أو العنصرية الصهيونية بمعزل عن الجانب الديني.
ثالثا: تتخذ الحركات الاسلامية الأصولية موقفا عرقيا من اليهود وتنفذ بالفعل في حال المنظمات المسلحة هجمات ضد مدنيين بوصفهم يهود وحتى موقفها من الدولة الصهيونية فهو مؤسس على أسباب دينية.
رابعا: باستثناء بعض المنظمات التي تعمل على مسألة معاداة السامية، معظم الباقي من المنظمات اليهودية هي منظمات صهيونية وتعمد إلى الربط بين كل من "معاداة السامية" ومفهوم "معاداة الصهيونية" Antisionisme وبين رفض التمييز ضد اليهود ورفض الهجوم على دولة إسرائيل وذلك هو سبب الهجوم –في النصوص السالف سردها- على حركات اليسار الجديد التي تتخذ موقفا من دولة اسرائيل لصالح القضية الفلسطينية وتنظم أحيانا بعض التعبئات لصالحها.
سادسا: مثلما يتم استخدام ظاهرة الارهاب (الاعتداء على مدنيين) في التبرير للحروب الانجلو أمريكية في المنطقة يتم استخدام ظاهرة "معاداة السامية" (العنصرية ضد اليهود) للتبرير للوجود الصهيوني وللدفاع عن دولة إسرائيل وهو ما ينكشف بوضوح في ربط مصطلح معاداة السامية ومصطلح "معاداة الصهيونية" من قبل المنظمات الصهيونية الأوروبية.
الواقع إن أطروحة "معاداة السامية الجديدة" ترتكز إعلاميا قبل كل شيء على أرقام حقيقية. تلك الأرقام تخص عدد أعمال العنف المرتكب بالفعل ضد مدنيين في أوروبا بسبب ديانتهم اليهودية، لكن أيضا تشير لوسائل الإعلام العربية بصفتها غير ديموقراطية وتقدم خطابا عنصريا ضد اليهود إلى جوار حالات التخلف الموجودة في دول الجنوب وتكون مرجعية ذلك غالبا رصد حالات تعذيب داخل السجون العربية ورصد حالات سجناء الرأي بالمنطقة وهي أمور ترصدها وتشير لها بالأساس منظمات دولية تعمل خارج هذا الإطار على غرار منظمة العفو الدولية بالإضافة إلى منظمات أخرى تعمل على تصيد بعض الأخطاء التي ترتكبها بعض وسائل الإعلام العربية والتركيز على تلك الأخطاء على غرار ما تفعله من حين لآخر منظمة ممري. يمنح ذلك تلك المنظمات مصداقية كبيرة أمام الجمهور الأوروبي، لكن مع ذلك يبقى العامل الرئيسي الأكثر حسما في تحديد تعاطف أوروبا مع تلك الأرضية هو تاريخ المذابح اليهودية التي أرتكبت ضد اليهود وبوجه العموم تاريخ التمييز الذي مارسته الحكومات الأوروبية ضد الأقليات اليهودية، حيث كانت الأقليات اليهودية تعاني بالفعل من حالات تمييز تاريخية ضدها مسجلة تاريخيا. يذكر سيجموند فرويد مؤسس التحليل النفسي وبوادر المدرسة السريالية في الفن، وهو يهودي الديانة، كيف بدأ التفكير في التحليل النفسي وكشف العقل الباطن للإنسان حين كانت صوت عجلات القطار يراوده كذكرى مؤلمة من طفولته حيث رحل مع كل أسرته هربا من البطش به لمجرد كونهم يهود. بيد أن دلالات المسألة اليهودية اليوم في إطار وجود "دولة إسرائيل" وممارساتها في الأراضي الفلسطينية تختلف بالتأكيد تماما عما كانت تعنيه منذ مائة عامة.
ان وجه القوة الرئيسي في مفهوم الارهاب أو معاداة السامية هو استناد ذلك لوقائع حقيقية سواء كان ذلك على مستوى التاريخ الأوروبي مع اليهود أو بالنسبة للممارسات الحالية قبل المدنيين من جانب الحركات الاسلامية بوجه خاص. نفي وقوع تلك الاعتداءات ونفي وجود مسألة يهودية ليس الا أن يزيد من قوة ومصداقية ذلك الخطاب لكن المقابل الذي يعنيه فعليا هو استخدام تلك الاعتداءات في تبرير كم هائل من الممارسات الاستعمارية في المنطقة بصفتها اما حربا ضد الارهاب والعنصرية واما دفاعا عن حقوق الانسان والديموقراطية حتى لو تم ذلك عبر حروب تدوم لسنوات. ذلك الخطاب يكتسب جمهورا متزايدا في أوروبا لأنه ينطلق من رفض العنصرية وحماية المدنيين لكنه في الحقيقة ينتهي لتبرير ممارسات عنصرية ومعادية أيضا للمدنيين وذلك هو الوجه الحقيقي له والذي ينكشف من وراء ستار مناهضة التمييز. فالمنظمات الصهيونية التي تعمل على مسألة معاداة السامية هي منظمات غير حكومية لكن في خلفيتها يكمن موقف حكومي تماما يقع على نفس مستوى موقف الحكومات الغربية التي تعاني من حركات اليسار الجديد ومن الحركات الإسلامية (وهو ما أطلقت عليه تلك المنظمات معاداة السامية الجديدة) كما تقع على نفس مستوى الدولة الصهيونية (وهو ما ينكشف في موقف تلك المنظمات من معاداة الصهيونية). أما الموقف من الارهاب والحملة ضده فمرجع ذلك كما أشرنا سابقا هو استراتيجية عميقة داخل الادارة الأمريكية تسبق بكثير اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر وترتبط برؤية خاصة في التنظيم الدولي قد تبدو محايدة أمام المصالح القريبة للمتضررين من الاستعمار لكنها ترمي على المدي البعيد للتقنين للتواجد الامبريالي في العالم باعتباره صوت المجتمع الدولي والممثل عن باقي دول العالم.
أن تحاول القوى الإستعمارية في العالم تغطية نشاطها فذلك أمر معتاد، وأن تنظم في سبيل ذلك حملات كاملة تضع العالم في مواجهة بعضه البعض فهو أيضا أمر وارد. لكن أن تصبح تلك الشعارات المطروحة من قبل أقصى اليمين الاستعماري "لا للإرهاب"، "معا ضد معاداة السامية" "الحق في الحياة" مجالا للكفاح لأجلها وللنضال الشعبي ولتعبئة الرأي العام والجمهور مع إستخدام صياغات حركات المقاومة نفسها، فذلك يجعل الرؤية ضبابية للغاية ويمثل منعطفا جديدا تماما.